بقلم محمد صلاح
في كل دول العالم تُسن القوانين لتنظم حياة الناس وتُحدد الحقوق والواجبات، المسموح والممنوع، المتاح والمحال، الثواب والعقاب، فيحترمها الناس ويحرصون علي الالتزام بها ويستنكفون بشدة من يخترقها أو يضرب بها عرض الحائط أو حتي يختلس مخالفتها، أما في مصر فالوضع مختلف، فالاعتقاد سائد بأن القوانين سُنت لتُخترق وأن «الشطارة» في اختراع وابتكار واكتشاف طرق التحايل عليها وأن الجسارة والشجاعة والقوة تظهر عند إثبات المقدرة علي التصدي للقانون ومعاندته والانتصار علي مواده. يعتقد الناس أن القوانين وضعت لحماية أصحاب النفوذ والسطوة، وأن الباقين لا يحميهم سوي القدر وحسن النوايا وطيبة القلب .
المشهد في الشارع يلخص الصورة: أي شخص يمكن أن يفعل أي شيء أو يرتكب أي خطأ، والسباق علي مخالفة القوانين فرض الفوضي وعمم الارتباك ورسخ الاعتقاد بأن القانون لا يحمي أحداً وأن السلطة والثروة والنفوذ فوق كل قانون. سادت البطلجة وانتشر العنف المجتمعي ومضي الناس يعيشون حياتهم بلا ضابط أو رابط إلا أصحاب الحظوظ العاثرة الذين يعتقدون أنهم ضحايا وأبرياء إذ ما خالفوا قانوناً شاركوا آخرين غيرهم نفس المخالفة، لكن الآخرين «نفدوا منها» أما هم فقادهم سوء بختهم إلي مواجهة مصير ليس من العدل أن يواجهوه.
الأمر واحد في كل الأحوال: فعندما يري المواطن لجان الاقتراع في الانتخابات موصدة في وجهه وينزل الشوم علي «دماغه» إذا أصر علي أن يمارس الحق الذي كفله له القانون، فإن المواطن نفسه لن يحترم قانوناً يعتد بسلطة. وفي هذا لم يفسر المواطن علي خرق قواعد المرور والسعادة البالغة التي تجتاح مواطن إذا ما نجح في كسر إشارة أو تجاوز سرعة أو مشي في عكس اتجاه السير، فالتحدي هنا أسهل وأيسر من أن تواجهه سطوة أو بطش بلطجية الانتخابات الذين حرموه خياراته.
أما أصحاب البيوت العشوائية التي شُيدت رغم القانون في أماكن محظور البناء عليها فهم الذين رأوا أصحاب الثروة والنفوذ يتجاوزون الارتفاعات في الأحياء الراقية ويهدمون الفيللات في المناطق الهادئة ليقيموا عليها غابات خرسانية خربت البلد ونشرت الازدحام وسوء الخدمات ووزعت القبح والتخلف.
وفي الحالتين النتيجة واحدة: هؤلاء خرقوا القانون وهؤلاء أيضاً، فشل الغلابة في الحصول علي تراخيص لبناء بيوتهم فتحدوا القانون وبنوها عشوائياً، تماماً مثلما نجح علية القوم في «لهف» التراخيص رغم مخالفتها أيضاً القانون. نموذج آخر: قلبت صحف الحكومة الدنيا علي «نادي القضاة» بعد تصريح لمسؤول في النادي اعترض فيه علي منح المرأة حق الجلوس علي منصة القضاء وهات يا تفنيد لرأي القاضي وهات «يا تقطيع» في نوايا وأفكار وأصحاب الآراء المشابهة دون أن تسأل صحيفة واحدة نفسها: من الذي منع المرأة المصرية من الجلوس علي منصة القضاء؟
هل يملك نادي القضاة أو أي جهة أخري حرمان المرأة من اعتلاء منصة القضاء؟ الأمر ببساطة بيد الحكومة وحزبها الحاكم، وإذا ما أرادت الحكومة أو الحزب الوطني للمرأة أن تصبح قاضية فاقتراح بقانون لنائب في الوطني يوافق عليه مجلس الشعب يحل الأمر رغم أنف نادي القضاة.
ونموذج ثالث: عندما يقرأ الناس عن محارق ومغارق وكوارث يبقي مرتكبوها في مواقعهم فليس من المستغرب أن يضرب الإهمال المجتمع كله وألا يحرص أحد علي سلامة الآخرين، فالأمل باق داخل كل شخص في الهروب من العقاب، وطالما أن المعايير انقلبت، فالطبيعي أن يسود الفساد وأن يسعي البعض إلي اللحاق بقطار الفساد ما دام غيرهم فسدوا ونعموا بفسادهم.
نموذج رابع: عندما يصمت مسؤولو المحافظات وهيئات التجميل والنظافة علي ظاهرة «متسولي المكانس» في الشوارع والكباري، فكيف يتساءل الناس عن أسباب انتشار القمامة؟ إذا كان رؤساء الكناسين والمسؤولين عنهم رضوا بالمشهد المخجل وأبقوا مرؤوسيهم في تلك الأوضاع المخزية فلا مجال لحديث عن كفاءة الأجهزة التي يتولونها وإجادة أو تقصير القائمين عليها.
ونموذج خامس: عندما نكتشف أن مئات الآلاف من الأطفال ينامون تحت الكباري والجراجات وداخل وأسفل عربات السكك الحديدية القديمة فكيف نستغرب حوادث القتل بينهم؟ ما هذا المجتمع الذي ترك أطفاله وأبناءه وجيله القادم دون عناية أو رعاية؟ كأن مجتمعنا تخلص من همهم وأعباء تعليمهم وتكاليف تربيتهم ومصاريف مأكلهم وتدبير أماكن مبيتهم ثم شكي بعدها من سوء منظرهم وبشاعة أفعالهم.
ونموذج أخير: تكتب الصحافة وتنتقد وتكشف فساداً وتفجر قضايا ولا أحد يحرك ساكناً فليكتب من يكتب و«افرحوا» بحرية الصحافة و«اضربوا» أدمغتكم جميعاً في الحوائط. نحن نعيش مجتمعاً حراً كل يفعل فيه ما يريد، فالحرية للجميع، أما القانون فيبطش بـ«ناس» ويصبح برداً وسلاماً وحناناً لـ «ناس» آخرين.
هناك تعليقان (٢):
Well Said.
مقال جميل
الحال من بعضه مثل ما تقولون
والتناقض موجود
والحكومات لاأحد يجرؤ على ان يسائلها
والصحافه ترغي وتزبد والناس يرغون ويزبدون والجكومه ترغي وتزبد والبلاد فوضى وصراخ ونفق الظلام يحيط بالجميع
لحضة هدوء وسكينه هي ما نحتاجه للتفكير ولتغيير الاسوء
الست معي ؟؟ام انك تصرخ في مكان اخر كما اصرخ انا هنا لديك
تحياتي
إرسال تعليق